آخر الأحداث والمستجدات
مكناس.. هل الجماعة وحدها مسؤولة عن التنمية ؟

من المسؤول فعليا عن تنمية المدينة؟ هل الجماعة الترابية المنتخبة التي تمثل الساكنة وتدبر الشأن المحلي؟ أم الوزارات المركزية التي تخطط وتبرمج وتمول المشاريع الكبرى من العاصمة؟ السؤال، وإن بدا بسيطا في صيغته، إلا أنه يعكس جوهر أزمة الحكامة المجالية في المغرب، ويطرح بإلحاح مضاعف في مدن بحجم وتاريخ مكناس، التي تعيش منذ سنوات على هامش السياسات التنموية الكبرى، رغم ما تزخر به من رصيد حضاري وموقع استراتيجي وموارد بشرية واقتصادية.
الجماعة الترابية، وإن كانت في الواجهة، ليست الفاعل الحاسم في التنمية. دورها في الواقع، محصور في تسيير اليومي، النظافة، الإنارة، بعض الأشغال البسيطة، الترخيصات، والتفاعل مع شكايات المواطنين. وحتى حين تضع الجماعة "برامج تنموية"، فإنها تصطدم بعوائق ثلاث،محدودية الموارد، ضيق الزمن السياسي، ومحدودية الصلاحيات الفعلية. معظم ميزانياتها تستهلك في التسيير، والكفاءات التقنية والإدارية غير كافية، والدينامية السياسية في كثير من الأحيان تعطل أكثر مما تيسر.
من جهة أخرى، تتحرك الحكومة عبر وزاراتها بمشاريع مهيكلة وبميزانيات ضخمة، لكنها تخضع في الغالب لمنطق التخطيط القطاعي والمركزي، وتفتقر إلى الانصات العميق للخصوصيات المحلية. مشاريع تقرر في الرباط، وتنفذ غالبا بمنأى عن رؤية الجماعة أو حاجيات المدينة الواقعية. والنتيجة هي غياب الانسجام بين ما ينجز وما يفترض أن ينجز، وغياب أثر ملموس على جودة الحياة، وجاذبية الاستثمار، وتوازنات المدينة المجالية.
ولاستيعاب حدود أدوار الفاعلين، يكفي تأمل طبيعة المشاريع التي تقع ضمن اختصاص الجماعة الترابية، مقابل تلك التي تظل حكرا على الحكومة عبر وزاراتها المركزية. فالجماعة، بحكم مواردها وصلاحياتها، يمكن أن تنجز مشاريع ذات طابع محلي ومحدود مثل تهيئة الطرق الحضرية الثانوية، بناء أسواق القرب، تجهيز بعض الحدائق، أو تدبير الإنارة العمومية والنظافة. كما يمكنها، وفق إمكانياتها، إطلاق برامج اجتماعية صغرى أو دعم أنشطة ثقافية ورياضية محلية.
لكن حين يتعلق الأمر بمشاريع كبرى مثل بناء المستشفيات الجامعية، إحداث الجامعات والمعاهد العليا، تجهيز وتوسعة الطرق الوطنية أو السكك الحديدية، إنجاز محطات النقل متعددة الوسائط، أو إطلاق مناطق صناعية كبرى، بناء منشآت رياضية، فإن هذه تظل رهينة بقرارات مركزية، وموازنات ضخمة لا تدخل في إمكانيات الجماعات الترابية.
وعند الحديث عن التنمية، لا يمكن إغفال مسألة خلق فرص الشغل، باعتبارها التحدي الأول الذي يواجه الشباب ويؤثر في الاستقرار الاجتماعي. هنا، تتجلى محدودية الجماعات الترابية بشكل واضح؛ فهي لا تملك القدرة على إحداث مناصب شغل مباشرة باستثناء تلك المتعلقة بإدارتها الداخلية، ولا يمكنها استقطاب استثمارات استراتيجية بمفردها. إن توفير فرص العمل يتطلب بنية تحتية مؤهلة، ومناخا جاذبا، وسياسات تحفيزية، وكلها عوامل تصنع على مستوى الحكومة ، من خلال تدخل الوزارات المكلفة بالصناعة، الاستثمار، التعليم العالي، والتكوين المهني. فالمناطق الصناعية، مراكز التكوين، المحطات اللوجستيكية، وبرامج دعم المقاولة، لا يمكن أن تنبثق من مبادرات محلية فقط، بل تستدعي إرادة وطنية وتمويلا عموميا وقرارات وطنية .لذلك، فإن تحقيق تنمية مولدة للشغل يبقى رهينا بمقاربة شمولية تقودها الحكومة وتتكامل فيها الأدوار، على أن تمنح للجماعات الأدوات والهوامش التي تجعل منها شريكا لا مجرد منفذ أو متفرج.
هذه الأمثلة تؤكد أن الجماعة لا يمكنها وحدها حمل ورش التنمية، وأن الرؤية المتكاملة من طرف الحكومة، والتنسيق الفعلي بين مختلف الفاعلين، تظل المدخل الوحيد لتحقيق تحول حقيقي في المدن المغربية، ومنها مكناس.
مدينة مكناس، التي عانت بشكل خاص من هذا الخلل البنيوي. مدينة بحجم مليون نسمة، بتاريخ عريق، ومؤهلات سياحية وفلاحية وصناعية، لكنها بلا رؤية وطنية واضحة، وبلا دعم مركزي يتناسب مع وزنها الرمزي والجغرافي. الجماعة عاجزة وحدها عن قيادة التحول، والحكومة لم تدرجها ضمن أولوياتها التنموية الكبرى. النتيجة،مشاريع متفرقة، مجهودات مشتتة، وحصيلة دون انتظارات الساكنة.
مكناس، مثل مدن مغربية كثيرة، تحتاج اليوم إلى أكثر من مشاريع ظرفية أو إصلاحات ترقيعية. تحتاج إلى إدماجها في رؤية وطنية واضحة، قائمة على العدالة المجالية، والتخطيط التشاركي، والتمويل الكافي. وعندها فقط، يمكن أن نطرح سؤال التنمية بجدية، وأن نحمل كل فاعل مسؤوليته في إطار منظومة منسجمة. فالتنمية، كما يفترض أن تكون، مسؤولية حكومة ترى في كل مدينة فرصة، وفي كل جماعة شريكا.
الحل لا يكمن في تحميل المسؤولية لهذا الطرف أو ذاك، بل في إرساء منطق جديد لتدبير المجال، قوامه التنسيق الحقيقي، وتقاسم الصلاحيات بوضوح، وتمكين الفاعل المحلي من الوسائل الضرورية للقيام بدوره و دعمه ليس فقط بالتفويض القانوني، بل بالتمكين الفعلي من الموارد، والتنسيق المحكم، وبناء مسارات شراكة حقيقية تنبني على الثقة المتبادلة. أما تحميله وحده مسؤولية تأخر التنمية، فليس سوى نوع من التنصل من واقع مركزي يتحكم فعليا في مصير المدن، ويبقي الجماعات في موقع "تدبير اليومي" بدل "قيادة التحول".
لا يمكن الحديث عن دينامية التنمية بمكناس دون التوقف عند الدور المحوري لعامل صاحب الجلالة، الذي يشكل حلقة وصل مركزية بين التوجيهات العليا ورهانات التنمية المحلية. فقد ساهم حضوره الميداني، وحرصه على التنسيق بين مختلف المتدخلين، في تحريك عدد من المشاريع المتعثرة، وتسريع وتيرة أخرى كانت رهينة التعقيدات الإدارية أو غياب الالتقائية. ومن أبرز هذه المبادرات إعادة تأهيل المدينة العتيقة، تحسين البنية التحتية لعدد من الأحياء، دعم مشاريع اجتماعية ذات طابع استعجالي، بالإضافة إلى الدفع بملفات استراتيجية نحو التنفيذ، سواء في مجالات النقل أو الثقافة أو الخدمات العمومية.
هذا الدور، وإن لم يكن ظاهرا دائما في واجهات الأخبار، فهو يعد حاسما في تعزيز الثقة بين الفاعلين، وتجاوز حالات الشلل التي قد تطرأ نتيجة ضعف التنسيق أو تضارب الاختصاصات. إن عامل صاحب الجلالة، بصفته ممثلا للدولة، لا يقوم فقط بدور رقابي، بل أصبح فاعلا تنمويا يسهم فعليا في بلورة حلول عملية، ويعيد التوازن حين تغيب الرؤية الموحدة بين المؤسسات.
الكاتب : | عادل بن الحبيب |
المصدر : | هيئة تحرير مكناس بريس |
التاريخ : | 2025-06-20 13:55:38 |